النخيلى
عدد المساهمات : 18 تاريخ التسجيل : 17/11/2012
| موضوع: آه يا إنسان ما نفعك من الندم السبت نوفمبر 17, 2012 4:37 pm | |
| تقترب دقات الساعة لتنذر بمنتصف الليل. في غرفة لا تتجاوز أبعادها المترين على ثلاثة تكسوها ظلمة تشبه ظلمة القبر الموحشة و يا ليتها توقفت عند هذا الأمر، بل تجاوزته إلى رائحة فاقت كل الروائح هي رائحة الحسرة و الندم! في هذه الغرفة و تحت سقفها و فوق أرض منكسرة البلاط يقبع عبد من عباد الله، و بين ثلاثة جدران و الرابع عبارة عن كومة من الحديد يوجد سرير ليس وثيرا و لا مريحا بل فقط يمنع ألم الأرض عند النوم، بين هذا و ذاك تشخص عينان تدمعان من شدة الجوع و الأرق، و فم يهمس بكلمات شديدة الوقع تارة و غير مفهومة تارة أخرى، إنه ذلك الشخص الذي خانه عقله في مرة من المرات، و غاب قلبه و ضميره عن الواقع ليرتكب جنحة او جريمة ينهي قصتها القاضي بتلك الجملة المشهورة : " حكمت المحكمة بالإعدام ! ". ليس غباء و لا جنونا و لا حتى معصية او ذنبا بل هو لحظة طيش في زمان غير مناسب و مكان غير مناسب.
كثيرا ما يتراءى إلى ذهن الجلاد أن كل من يقبع في السجن هو مجرم لن يتعظ لبقية حياته، و مادام أنه أصلا قد دخل زنزانة ضيقة فهو مذنب و لو حفر على جبينه بالنار " إنه بريء بعد قضاء مدته "، إلا أن هذا الشخص قد غير معطيات كثيرة، و جعل المنطق غائبا و المشاعر حاضرة. أحيانا يقسم ذلك المذنب على أنه بالرغم من عدم تجريب عذاب القبر إلا أنه يكاد يكون موقنا أن عذاب زنزانته المهجورة وسط مستنقع الذنوب لا يكاد يضاهي أي عذاب آخر، و كثيرا ما وجده الحارس يقطع ملابسه من شدة ألم النفس، في تلك المرات الكثيرة لم يكن الجلاد منتبها أو يعطي قيمة لتصرفات هذا " المجنون " حسب رأيه لأنه كثيرا ما رأى ما هو أشد من هذا، إلا أنه و بعد مرور سنوات على تلك الحال بدأ قلبه يحن على هذا " المسكين " حسب قوله لأنه صورة حية لمن تألم و ندم بعدما إقترفت يداه أبشع جريمة يمكن للإنسان تخيلها، هي الجريمة التي تلقي بهذا " العبد البسيط " إلى غرفة مظلمة لا يميز فيها الإنسان بين ورائها و أمامها و يمينها و شمالها. على كل حال، و حسب قول القاضي عندما إحتج " المذنب " على الحكم : هو ما إقترفت و هو ما تستحق!
يعتبر الناس أن الندم لا يأتي مع شخص باع مبادئه في أول مرة، و أن المغفرة و الرحمة لا تجوز و لا تقبل مع من سفك دما أو سرق ذهبا أو إغتصب بنتا أو قتل خطئا إلا أن قصة هذا العبد كان لها تأثيرها بطبيعة الحال على الجلاد و على رئيس السجن بل و على من حكم بالحكم في أول مرة! أجل! إن لوعة و حرقة الندم التي رآها هؤلاء في شخص المذنب على الورق لم يروها في كائن آخر، و ربما لم يستوعبها حتى الملاك الذي هو على اليمين و اليسار. فعندما يكاد الشخص أن يقذف الدم من فمه و يكون مستعدا لأن يعمل مقابل حفنة صغيرة من المال لا تسد جوع بطنه فقط لينال ورقة " الحرية " و حين يتغير سلوكه بمقدار دائرة كاملة و يرى في أشعة الشمس و الهواء الذي يتنفسه نسمة من نسمات العذاب لأنه زج بنفسه في موقع مستعصي الحل، هنا يفهم من لديه قلب و من لديه رحمة أن الندم قد جاء ليكمل مع صاحبنا باقي أيام حياته قبل حبل المشنقة و ينغص عليه كل لقمة و كل قطرة تدخل إلى فمه.
يصف الجلاد رؤيته لصديقنا يبكي بحرقة على ما ضاع و على ما هو آيل للضياع بسبب فيروس ربما دخل عقله فدمر تلك الروابط العصبية ولو لهنيهة من الزمن. يصفه بأنه من فـُطر قلبه، يصفه بأنه من عاش عذابين عذاب السجن و عذاب القبر، يصفه بأنه من كانت حياته ممتدة بين ظلمتين ظلمة الرحم و ظلمة اللحد، يصفه بأنه عاشق الحرية و بأنه مهووس بأحد الأصوات التي ترتفع مع أول الفجر و هو الأذان، بانه من عرف حق ربه قبل حق نفسه بعدما ذاق سنوات في السجن، بأنه من هرب من الشارع ظنا منه أن سجن " الخمس نجوم " قد ينفع و لم يدري أنه هرب إلى خمس نجوم لكن بمعنى سالب. إن صديقنا قد عرف الآن ما الذي فعل و فهم ما الذي نتج لكن لم يدرك ما الذي يجب عمله.
آخر فصول الحكاية تأتي مع صياح الديك يوم الخميس، بينما الناس متجهة لعملها، و بينما الطلاب يتجهون لمدارسهم، يتجه هذا الشخص إلى غرفة واسعة في وسطها حبل. بلباس ممزق و لحية قد إزداد طولها و شعر يحسبه الناظر للمذنب نتاج أعوام من عدم الحلاقة و هو كذلك! يدان ملطختان بالأوساخ و وجه يكاد يداعب الأرض و يغازلها لينال حريته، و قلب ينبض دما أسودا، هي ذي حالة المسكين و هو يتجه نحو حبل الموت. قف! إستعد! إربط الحبل! إبتعد! هي أوامر يطلقها الزعيم ليرسم آخر يوم للسجين، بعدها تأتي تلك الصيحة : " اشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله " و يعم السكون المكان! بالفعل! كتبت ساعة الوفاة. لم ينفع هذا السجين الندم في آخر أيام حياته شيئا، و لم يخبئ له الدهر مفاجأة بقدر الفاجعة، فليرحمك الله أيها السجين، و لتكن عبرة و قصة نادرة لمن نهض قلبه و ضميره و أحس بالندم و لكن يآ أسفاه بعد فوات الأون
| |
|